الاثنين، 19 سبتمبر 2011

بعد أربعين عاماً.. لا اعتزال!

ليس شأنا شخصياً حديثي المتكرر عن مكافحة التدخين، وليس بدواعي المهنة الطبية فقط واصلت مع غيري هذا الجهد «الاجتماعي الصحي» لأكثر من أربعين عاماً أي منذ أقلعتُ عن التدخين وبدأت أتلمس طريقي لمحاربة هذه الآفة في بلدي، وفي بلاد أخرى كما سيأتي فيما بعد.. وحين أبدعتْ وزارة الصحة عام 1977 استنباطَ الشكل القانوني لمكافحة التدخين من فصل «المكاره الصحية» في قانون الصحة العامة رقم 21 لسنة 1971، اعتبرنا ذلك «تخريجة» ذكية بدوافع خيّرة أتاحت الفرصة عام 1981 لظهور الجمعية الوطنية الأردنية لمكافحة التدخين التي أسسها الدكتور زهير ملحس وحمل لواءها محاربا صادقاً لزمان طويل.. وقد أنجزتْ هذه الجمعية بالتعاون - طوال الطريق - مع وزارة الصحة ما لولاه لكان ضيقُنا هذه الأيام بشرور انتشار التدخين أشد وطأة، ولكانت حسرتنا من ارتفاع نسبة المدخنين بين شبابنا وشاباتنا أدعى للقلق المُمضّ، وفي كلا الحالين لسنا متشائمين ولسنا قانطين..

في تاريخ مكافحة التدخين يكفينا فخراً أن بلدنا كان من اسبق دول العالم في منع الإعلان عن التبغ ومشتقاته ولم تكن المهمة سهلة فقد واجهنْا ضغوطاً متواصلة مارستها شركات الإعلانات لكن الموقف المشرّف لصحفنا وإذاعتنا وتلفزيوننا احبطها، كما عانينا من حرب شرسة شنّها «المتضررون» في صناعة السجائر لأنهم خَشَوْا بعض الهبوط في أرباحهم الفاحشة التي يجنونها من إمراض الناس بسمومهم ومخدراتهم «المشروعة»! وهو ما يذكرني بموقف اعتز به حين كنت ذات يوم من عام 1986 على منصة الرئاسة في منظمة الصحة العالمية في جنيف أُرحّبُ بكلمة وزير الصحة الايرلندي التي أعلن فيها عن نية حكومته سن قانون لمنع الإعلان عن السجائر ثم اقترحُ على المنظمة اصدار قرار يدعو الدول الأعضاء لسن مثل هذا التشريع كما فعل الأردن عام 1977، وإذا ببعض الصحف السويسرية في اليوم التالي تهاجمني لأني «خرقت مبدأ الحياد الذي ينبغي على الرئيس الالتزام به»! وقد تبّين بعد ذلك بسنوات اثناء التحقيق في قضايا فساد داخل المنظمة أن احد موظفيها كان في نفس الوقت «عميلاً سرياً» لشركات التبغ وربما كان هو الذي أبلغها بتعليقي وأشار عليها «قانونيا» بان تومي للصحف التي لها عليها نفوذ «إعلاني» بأن تنتقدني! المهم إن اقتراحي على المنظمة والذي أيده الكثيرون استمر في ضميرها أمداً طويلاً ونال من الدراسات الكثير حتى تمخض عن الاتفاقية الاطارية لمنع اضرار التدخين وقد صادقت عليها الحكومة الأردنية في عام 2008 فشكلت نقطة انطلاق جديدة لمكافحة التدخين في بلدنا..

وبعد.. في تشرين الأول من عام 2009 شرفني رفاق الدرب في الجمعية الوطنية الأردنية لمكافحة التدخين برئاستها وها قد انقضت الدورة التي واصلت فيها مع زملائي في الهيئة الإدارية ما بدأه الأولون.. ولا أنوي التجديد، ليس تخلياً عن المسؤولية بل إيماناً بالتداول وباتاحة المجال لتدفق الدماء الشابّة وبضرورة تخفيف أعبائي وأنا مشرف على الثمانين، وليس اعتزالاً لاني سأبقى جنديا بسيطاً في خدمة الفكرة النبيلة حتى آخر عمري..
استحضار نموذج روبن هود!

«نحن نعيش في عصر يشبه الى حد كبير ذاك الذي عاشه روبن هود حين كان اللوردات الاقطاعيون يحكمون انجلترا وينهبون الناس وسط فوضى ادارية وانفلات اقتصادي غابت فيه القيود الاخلاقية والضوابط الاجتماعية، فلماذا لا نتمثل ذكراه التي لا تُنسى بأن نتبنى من جديد مبادئه واهدافه من أجل تغيير الاوضاع في العالم والا انحدرنا الى الدرك الأسفل...» هذا ما يدعو له جون بيركنز في مقال له على الـ Information Clearing House 12 /8 /2011 ويعزز دعوته لاستحضار نموذج ذلك الثائر المرح بقوله: «إن ازمة الميزانية في واشنطن، والمواجهات الدامية والحرائق في المدن الانجليزية، والمظاهرات في اوروبا والشرق الاوسط هي اعراض لنفس الاضطراب الكبير الذي كان سائداً أيام روبن هود بدليل الحقائق التالية:

إن الذين ننتخبهم في ديمقراطينا الكبيرة ( الولايات المتحدة ) ليسوا هم الذين يشرّعون لنا القوانين فقد تخلّوا عن هذه المسؤولية للوسطاء والعملاء من مجموعات الضغط التي تعمل لحساب الشركات الكبرى Corporations وهذه في الاصل هي التي موّلت الحملات الانتخابية !

وسائل الاعلام المقروءه والمسموعة والمرئية لا تنقل لنا الانباء على حقيقتها ولا تقف الى جانبنا ونحن نحاول المحافظة على دستورنا لأنها مملوكة بالكامل لتلك الشركات.

الميزانية عندنا لن تكون متوازنه بلا عجز كبير طالما أننا ننفق تريليونات الدولارات في حروب للدفاع عن «استغلال» تلك الشركات لثروات البلاد الأخرى ! مع أننا نحرم شعبنا من الخدمات الاساسية في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والتي لا تكلف بالمقارنة إلا القليل..

لقد ابتعدنا كثيراً عن المبادئ الاخلاقية التي نتغنى بها، فنحن لا نخجل مثلا من استهلاك البضائع المنتَجة بعرق الذين يعملون كالعبيد في الدول الفقيرة، ونحن نلقي باللائمة على حضارات الآخرين واديانهم ونتهمها بأنها سبب مشاكلنا ومصدر متاعبنا ! ونقبل كأمر عادي الفساد الذي ينخر بعض ساستنا وأجهزة رقابتنا ثم لا نخجل أن نسجن واحداً كبرادلي ماننغ لانه فضح الجانب الأسود من سياستنا في العراق ( ماننغ هو الجندي الأميركي المحبوس في زنزانه انفرادية منذ أيار 2010 وينتظر حكما بالسجن 80 عاماً بتهمة تسريب الفيديو السري الى الويكيليكس الذي يكشف هجوم طائرة الاباتشي الاميركية على عراقيين مدنيين وقتل 11 منهم بدم بارد في تموز 2007 )...» ثم يمضي بيركنز للقول: «علينا أن نعترف بأن حكامنا - تماما كلوردات الاقطاع في انجلترا روبن هود - قد خلقوا لنا وضعاً سيئا ومروعاً، وأن رأسماليتنا النهّابة السلاّبه لا تخدمنا إلا إذا كان الواحد منا بليونيراً.. لذلك نتساءل أين روبن هود ؟ أين أولئك الرجال والنساء الذين انضموا له ببهجة وحماس وتحدوّا جبروت اللوردات في تلك الأيام المجيدة ؟ نحن نود أن نستعيدهم حتى لو في خيالنا لنقتدي بهم ونتعلم كيف كانوا «يشلّحون» الأغنياء ليردوا للفقراء بعض ما سرقوه منهم ! لقد آن الاوان لكل الشرفاء أن يتجمعوا رجالاً ونساءً من خلال نشر الافكار في شبكات الانترنت (كأنما يستوحي ثورتيْ تونس ومصر ) ففي هذه الايام لسنا بحاجة للقوس والنشاب ولا للسيوف أو أسلحة الموت، إن لوردات هذا العصر يسيطرون علينا بالدعاية والاعلان والاغراءات الماديه، ويملأون محطات التلفزيون بمعلّقيهم المأجورين ويتحكمون في الصحافة من خلال عملائهم ! علينا أن ندحرهم ونهزمهم في ميدان المعركة هذا حيث الوعي والمعرفة بدل الدم والعنف، فقوْسي هذه الايام هو حاسوبي أو منصّة محاضراتي، وسهامي هي كلماتي المكتوبة أو المسموعه...»

وبعد.. ربما تتذكرون جون بيركنز هذا ؟ لقد علقت في 18 /7 /2009 على كتابه الشهير (( اعترافات قاتل اقتصادي )) بعد أن صحا ضميره وأثار ضجة كبيرة بفضحه الوسائل غير المشروعه للمخابرات الأميركية في شراء ذمم قادة الدول لحساب الشركات الكبرى وإلا فالاغتيال لمن لا يبيع وطنه ! وكان آخر المقتولين وبنفس الطريقة جايمي رولدوز رئيس الاكوادور عام 1981 وبعده بشهرين عمر توريخوس زعيم بنما..

إذن، لا غرابة في أن يدعو بيركنز للاقتداء بروبن هود !
كيف يقف ثائر.. ضد أي ثورة؟

قد يكون الحديث عن القذافي بعد سقوطه من نافلة القول خصوصاً إذا لبس لبوس الحكمة بأثر رجعي! لكني لا أملك إلا أن أذكّر بموقف صغير بدا عابرا لكنه استوقفني بدلالته حين سئل هذا «الزعيم» عن الثورة التونسية بعد ساعات قليلة من انتصارها بفرار زين العابدين بن علي وقبيل اندلاع الثورة في ليبيا نفسها بأيام قليلة فأجاب: «إنه متألم لما حدث إذ لا يوجد أحسن منه (يقصد بن علي) في هذه الفترة لرئاسة تونس» ثم مضى يحذّر التونسيين من أنهم سيندمون على ما اقترفت ايديهم!.. هكذا ودون أن يرف له جفن يومئذ ناقض القذافي قائد «ثورة» الفاتح من سبتمبر نفسه وكل ما كان يزعمه على مدى اربعة عقود من أنه مع الثوار في كل مكان، فقد عبر بتلك الكلمات الفجة عن حقيقته كحاكم مستبد ولم يستطع أن يخفي تعاطفه مع واحد من اقرانه الطغاة مدفوعاً بقلقه وخوفه من مصير محتمل!

ربما يذكر البعض كيف حاول اعلامه في اليوم التالي ان يداري سَوْأته ويغطي على الاصداء المستنِكرة التي بدأت تتردد في كل مكان فراح يثير دخان التمويه ويطلق ضجة أخرى توجه الانظار لتصريحات ادعى انها صادرة عن الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الاسلامي عشية عودته الى تونس من منفاه والتي نشرتها صحيفة «قورينا» الالكترونية المقربة من نجله سيف الاسلام وجاء فيها أنه اشاد بالزعيم معمر القذافي وبدعمه للثورة التونسية التي بدأت تتمثل بعد انتصارها بالنموذج الليبي (كذا!) ، لكن ما كتبته سمية الغنوشي (غير البعيدة عن سياسة والدها) في صحيفة الغارديان البريطانية في اليوم التالي يفند ذاك الادعاء إذ قالت: «الثورة التونسية كانت بمثابة صدمة لكل الحكام الذين ترتعش ابدانهم الآن خوفاً من انتقال عدواها الى شعوبهم» ، وتحدثت عن ضرورة قيام ائتلاف موسع للقوى التي تستطيع تفكيك إرث الحالة الاستبدادية لما بعد الحقبة الكولونياليه فأشارت الى «التحالف الذي تشكل من حزب الشغل الشيوعي بقيادة حمه الحمامي ومن حزب الشعب من اجل الجمهورية الشخصية الكارزماتية المنصف المرزوقي ومن حزب النهضة الذي يقوده والدي راشد الغنوشي، جنباً الى جنب مع النقابيين وناشطي المجتمع المدني» فهل هذا كلام يمت بأي صلة للنموذج المثير للسخرية ؟

وبعد.. إذا كان لابد من كلمة بهذه المناسبة التاريخية حقاً فهي أني لا ارى في سقوط القذافي عبرة للطغاة الآخرين إذ حدث ذلك للكثيرين من قبله وكان آخرهم على الاقل زين العابدين بن علي وحسني مبارك فلم يعتبر كما لن يعتبر باقي المستبدين ممن سيأتي دورهم ولو بعد حين ، ولا اعتقد أن الدرس سوف يستفيد منه اولئك الذين يصدقون الدكتاتور ويسيرون وراءه مخدوعين فلا يبصرون الهاوية حتى يسقطوا فيها.. لكن بعد أن يسقط!
ورق.. آه يا ورق !

بعد أن أمم جمال عبد الناصر قناة السويس عام 1956 جن جنون الدول التي سمت نفسها (( المنتفعة )) من القناة وهي في الواقع المستغلة لها والمتضررة من تأميمها فبدأت بفرض سلسلة من العقوبات على مصر لعل زعيمها (( العنيد )) يتراجع قبل أن تشن عدوانها الثلاثي المعروف الذي شاركت فيه اسرائيل كلا من بريطانيا وفرنسا ! ولقد عانت مصر من الحصار الاقتصادي القاسي لسنوات طويلة ليس فيما يتعلق بالقمح والمواد العديدة التي يمكن أن توجع المصريين بل لقد طال حتى (( الورق ))، نعم ورق الطباعة الذي تحتاجه الصحف والكتب.. بما فيها كتب المدارس بالطبع ! اي أن السعي لتجهيل تلاميذ مصر كان جزءاً من اساليب الغرب ((المتحضر)) لتركيع مصر واجبارها على التراجع عن قرارها الوطني بتأميم القناة وقرارات سياسية أخرى نابعة من إرادتها الحرة المستقلة..

كنا أيامئذ نشهد التقتير في عدد صفحات الجرائد والمجلات وفي تضاؤل عدد الكتب التي تصدرها المطابع المصرية فتمتليء نفوسنا بالحزن والغيظ ونحن الذين تعودنا منها على أهم وأغزر ثقافة عربية غذّت عقولنا، وكنا نغضب ولا نعجب من التمييز الصارخ ضد مصر ونحن نرى بالمقابل صحفاً جديدة وكتباً كثيرة تصدر في الغرب مطبوعةً على أفخر الورق الصقيل طافحةً بما تسعى له الآلة الاعلامية الهائلة من تشكيل عقول الناس في انحاء العالم حسب هواها حتى ينشغلوا بكل انواع السلع الاستهلاكية المستورده وينسوا مصالحهم الحقيقية في التعليم العام المجاني والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وكنا نرى في نفس الوقت بعضاً من تلك الصحف والكتب تصدر في لبنان كنقطة انطلاق لنشر الفكر الاستعماري الجديد بأثواب جذابة وبدعم مالي سخي من دول كبرى وبعض دول عربية ايضاً !!

ورغم مرور عقود تغيرت فيها الظروف والاحوال بما في ذلك انبهار البعض بعصر الانفتاح الذي دشنه أنور السادات في مصر وغورباتشوف فيما بعد في الاتحاد السوفيتي فلقد صاحبتْنا عقدةُ (( شح )) الورق تلك في مراحل لاحقة من العمر حتى ضمْمنا اصواتنا - وعن اقتناع كامل - لجماعة الخضر المنادين بالاقتصاد في استهلاكه لأن معظمه مصنوع من (( قتل )) الشجر، وساهمْنا في حملات تطالب بتدويره وتشجيع استعمال البدائل من مصادر غير ضارة بالبيئة، لكننا وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة على الأقل وجدنا بلادنا غارقةً في تيار جارف من السفه في استهلاك الورق على شكل انواع جديدة من المطبوعات والنشرات الاعلانية المصورة والملونة التي يُوزَّع جزء كبير منها مجانا على ابواب المنازل فيضيع اكثره متطايرا في الشوارع أو يلقى به كما هو في حاويات النفايات !

وبعد.. فانا من جيل تألمّ ذات يوم من التقتير في استعمال الورق فكيف لا أتألم الآن وأنا أراه يهدر بلا أدنى ترشيد وتتلف كميات هائلة منه بلا رحمة أو تقدير، وآه.. يا ورق !
لقراء وماسونية جمال الدين الأفغاني!

احتراما لعقل القارئ وقدرته على التفكير وحريته في الاستنتاج اتعمد عند طرحي لبعض المواضيع ألا أقحم عليه رأيا محددا فيها، كما أني احيانا اصطنع الحياد كارهاً حتى يختار بنفسه موقفه المستقل منها فانا أمقت التلقين وإن كنت احتفظ بحقي في الايماء أو التلميح! حدث ذلك في كثير من مقالاتي وكان آخرها عن ماسونية جمال الدين الافغاني حيث تجنبت إبداء وجهة نظري حولها بل تركت ذلك لفطنة القارئ بعد أن أطلعته على لقطات موجزه من قصة الافغاني معها، فلو أنا أعلنت موقفي المنِكر للماسونية فأنني بذلك أدين الرجل الكبير مسبقاً وأدمغهُ بما استقر عنها في اذهان الناس من علاقات سرية مع المحافل الاجنبية بلغت في التاريخ حد الخيانة كما في قصة الضابط الفرنسي درايفوس، أو عن مبادئها غير المعلنه التي تخفي محسوبيةً تتنافى والعدالة المجتمعية أو محاباةً تفسد أحكام القضاء نفسه، ولو أنا أيدت الماسونية فأني أتناقض مع ذاتي وأغمض عينيَّ عما هو معروف وموثق عن بعض اعضائها من زعماء ومسؤولين كبار كانوا بوعي منهم أو بلا وعي، يتعاونون مع الاحتلال البريطاني في مصر أو الفرنسي في لبنان وسوريا ثم فيما بعد مع الصهيونية في فلسطين.

من القراء من لامني على ما سموه غموض موقفي من الماسونية إشفاقاً عليّ وعلى سمعتي من الاشتباه بأني ماسوني فينقم عليّ اعداؤها وهم - كما قالوا - الاكثر بين الناس، ومنهم من شكرني على أني أوضحت هذا الجانب من تاريخ الافغاني بعد أن شرحت كيف سخرَّ اعضاءَ محفله في تنظيم رقابة صارمة على أجهزة الدولة من خلال محاسبة وزاراتها المختلفه وبمباركة من الخديوي سعيد حتى بلغ به الطموح في تحديث مصر وتطويرها نحو الديمقراطية حد المطالبة بالدستور والانتخابات النيابية ما ضاق به المستعمر البريطاني فأوعز بنفيه الى الهند، وربما أنصفتُه بالتساؤل الاخير «من استخدم من ؟».

قارئ معجب بما أكتب وبهذا المقال تحديداً روى لي قصته وكيف حاول البعض اغراءه حين كان طالبا في الجامعة في أميركا للدخول في الماسونية لأنها سوف تفتح له طريق الوصول الى اعلى المناصب عند عودته لبلده لكنه رفض ثم سالني إن كنت قد انتسبت للماسونية مادمت قد أصبحت وزيرا ذات يوم! فأحلته الى ص 103 من مذكراتي «بين الطب والسياسة» حيث رويت قصة اعتقالي عام 1962 «... بعد الافراج عني بايام وكنت مازلت في حالة نفسية سيئة وضعف معنوي لم أعرفه سابقاً زارني صديق قديم أفصح لي بأنه ماسوني ووعدني بمساعدتي على الانضمام الى الحركة الماسونية لان فيها شخصيات ذات نفوذ كبير ومنها فلان وفلان وفلان، يستطيعون اخراجي من هذه الازمة ووعدته بأن ارد عليه بعد أيام لكنني فكرت مليا في الأمر ولم أرد ابداً «..

وبعد.. لم أهتم يوماً بأن أناقش موضوعا كبيراً متشعباً كالماسونية بل حاولت في المقال السابق أن ألمس لمساً خفيفاً قصة الافغاني معها، ولم يكن قصدي الدفاع عن وطنيته أو وطنية سعد زغلول والامام محمد عبده وفارس الخوري والامير عبد القادر الجزائري والعديد غيرهم فالقراء يعرفونهم ويعرفون اكثر مني تاريخهم العظيم.
عن جمال الدين الأفغاني والماسونية!

ليس سهلاً مناقشة «ماسونية» رجل في حجم جمال الدين الافغاني (1838 - 1897) من خلال مقال قصير كهذا لكن تكرار الحديث عنها امامي ثلاث مرات هو ما ألح عليّ كي افعل، كانت الثالثة وهي الاخيرة حين استمعت لمحاضرة عنه قبل أيام للشاعر الاردني سليمان المشيني في المركز المجمعي المسكوني (الكنيسة اللوثرية) استنكر فيها أن تكون له علاقة بالماسونية «لأن اخلاقه ووطنيته وفلسفته العظيمة لا يمكن أن تسمح له بذلك». وكانت الثانية قبل بضعة اسابيع حين شاهدت حلقة في البرنامج الثقافي «عصير الكتب» الذي يقدمه الاديب المصري بلال فضل على قناة D2 وكان موضوعها كتابٌ عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية منذ ثورة أحمد عرابي 1882 الى ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وقد تحدث مطولاً مع ضيفه الشاعر شعبان يوسف باسهاب وإعجاب عن جمال الدين الافغاني ودوره الفكري الثوري الرائد، لكنهما مرا على ماسونيته مرور الكرام ! أما الأولى والأهم فكانت قبل بضعة شهور حين قرأت في «احاديث الثلاثاء - كلمات لمثقفين عراقيين» بحثاً مطولاً عن «الماسونية في البلاد العربية» بقلم نجدة فتحي صفوة وفي جزء منه دخول هذا المصلح الكبير في الحركة الماسونية إذ انتسب للمحفل المصري (كوكب الشرق) التابع للمحفل الاعظم الإنجليزي في عام 1875 وطلب انتسابه محفوظ في مكتبة البرلمان الايراني «... ارجو من اخوان الصفا وأستدعي من خلاّن الوفا أعني ارباب المجمع المقدس الماسون، الذي هو عن الخلل مطهر، أن يمنوا علي ويتفضلوا إليَّ بقبولي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر...» ثم اخذ يرتقي في مراتب الماسونية سريعاً حتى وصل بعد ثلاثة اعوام الى مرتبة الرئاسة، ويتابع نجدة صفوة: وكان الافغاني في بداية اقامته في مصر بعيداً عن السياسه، يتجنب خوضها في احاديثه التي اقتصرها على شؤون الاصلاح الديني والاجتماعي ولكنه اخذ يتحول عن هذا الموقف تدريجياً مما ادى الى ظهور خلاف بينه وبين اعضاء المحفل فقد قال له احدهم: إن الماسونية لا دخل لها في السياسة وإننا نخشى على محفلنا هذا من بأس الحكومة وبطشها، فرد عليه الافغاني قائلاً: «كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة وعجيبة، ولكني ما كنت أتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل من بين اسطوانتي المحافل الماسونية... أول ما شوّقني للعمل في بناية الاحرار (يريد الماسون) عنوانٌ كبيرٌ خطير: حرية، مساواة، إخاء، غرضه منفعة الانسان، سعيٌ وراء دك صروح الظلم، تشييدُ معالم العدل المطلق، ولكن مع الاسف ارى جراثيم الأثرة، والأنانية، وحب الرئاسة، والعمل من جماعات بمقتضى اهوائهم وغير ذلك من الأمور التي ما تأسست الماسونية الحرة إلا لملاشاتها...»، وعلى إثر هذا الخطاب انسحب الافغاني من المحفل لكنه لم ينسحب من الماسونية بل أسس محفلاً جديداً برئاسته وجعله تابعا «للشرق الأعظم الفرنسي» وانضم اليه اصحابه وتلاميذه ونجح المحفل الجديد نجاحاً فائقاً وبلغ عدد أعضائه ثلاثمائة وكانوا جميعاً من المفكرين والعلماء والوجهاء، وأصبح الأفغاني شخصية سياسية لها وزنها واخذ يكتب في الصحف ويخطب في الجماهير ثم الفّ حزبا سياسيا باسم «الحزب الوطني الحر» وكان له دور كبير في تنحية الخديوي اسماعيل عن الحكم وتنصيب توفيق خديويا مكانه، وكان هذا ماسونيا ورئيس شرف للمحافل الماسونية، كما كان محباً للافغاني معجبا بأفكاره ولذلك شعر هذا في عهده كأن الدولة المصرية كلها اصبحت طوع يده فاخذ يوجه اعضاء محفله نحو العمل الجدي لاصلاح الجهاز الحكومي فجعلهم عدة فئات واناط بكل فئة منهم مراقبة الدوائر في وزارة من الوزارات إحداها للحقانية وأخرى للمالية وثالثة للاشغال ورابعة للجهادية وهكذا، ثم تتصل كل منها بالوزير المختص وتبلغه بآرائها ومطالبها بأسلوب حازم صريح. ولم يكتف الأفغاني بذلك بل صار يطالب بالدستور وبإقامة نظام نيابي في مصر مما أدى إلى نشوب الخلاف بينه وبين الخديوي توفيق الذي حاول حمله على الكف عن هذه الدعوة، فلما أخفق في ذلك نفاه من مصر، إذ أُلقي القبض عليه في ليلة 26 أغسطس «آب» سنة 1879 ونُقل إلى باخرة كانت في طريقها الى الهند. ويقول الدكتور سامي عزيز: «يلاحظ من دراسة تاريخ الأفغاني أن الإنجليز سكتوا عنه وهو في مصر طالما كان عضوا في الماسونية الانجليزية ولكنه عندما خرج عليها وأنشأ المحفل التابع للشرق الفرنسي وأخذا يهاجم سياسة بريطانيا، عندئذ أشاروا على توفيق بضرورة التخلص منه».

وبعد.. ففي معرض الحديث عن ماسونية جمال الدين الافغاني وهل استخدمها أم استخدمته، نتذكر كثيرين سواه ممن احترمنا، ومازلنا، تاريخهم الفكري والنضالي أمثال الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وسعد الله الجابري وفارس الخوري والامير المجاهد عبد القادر الجزائري فاستغربنا انضمامهم للماسونية، رغم معرفتهم بالفتاوى الدينية الاسلامية ضدها وموقف الكنيسة الكاثوليكية الرافض لها ثم الآراء السياسية والفلسفية التي تناهضها.
ليتكم كنتم معنا.. في السلط!

حول العالم.. لم يتوقف الحديث عن المفاعلات النووية منذ حادث فوكوشيما المروّع الذي خلع قلوب الناس في كل مكان إلا قلوب المتاجرين بتسويقها وبنائها من اصحاب الشركات المختصه (اريفا مثلاً) أو حكوماتها أو وكلائها ! واليابان نفسها مازالت في حالة الصدمة القصوى تغرق في احزانها وتضمد جراحها وهي تعمل المستحيل لدرء اخطار الاشعاعات المهددة لحياة البشر والشجر واسماك البحر وتواسي وتؤوي مئات الألوف من المهجرين والنازحين من منطقة الكارثة، ولا تدري كيف ترد على ملايين الاصوات المطالبة بوقف المفاعلات عن العمل والتوقف عن انشاء المزيد منها، وعلى الجانب الآخر تقف دول أوروبا مشدوهة مترددة فيما إذا كانت ستحذو حذو ألمانيا التي حزمت أمرها استجابة لضغط شعبي لم يتوقف منذ عشر سنوات، فقررت مؤخراً (أيار 2011) وبعد الدرس القاسي في فوكوشيما أن تغلق ما تبقى من مفاعلاتها النووية قبل عام 2022 وألا تبني أي مفاعل جديد وأن تلتفت بكل قوتها الى الطاقة البديله في الشمس والرياح وسواها.. وحتى فرنسا الاكثر استخداماً لهذه المفاعلات بين دول اوروبا تشهد كذلك جدلاً ساخنا واسعاً فقد كتب ستيفان لوم رئيس المرصد النووي الفرنسي في لوموند 31 /5 /2011 مقالاً فضح إدعاء الحكومة الفرنسية بان الطاقة النووية ضرورية لكي توفر للمستهلكين كهرباء رخيصة حين أكد أن اثنا عشر بلداً من اعضاء الاتحاد الاوروبي ينعمون بكهرباء ارخص دون استخدام الطاقة النووية ! وأضاف «لقد قررت شركة الكهرباء الفرنسية رصد مبلغ 600 مليون يورو لصيانة كل مفاعل ما يعني أن 58 مفاعلا نوويا سوف تحتاج لـ 35 مليار يورو لذلك فان الاستمرار في استعمال الطاقة النووية سيكلفنا أكثر بكثير من الاستغناء عنها ناهيك عن التكاليف الاضافية للتخلص من النفايات المشعة».

وفي خبر لرويتر في 9 /7 /2011 أن استطلاعاً للرأي أظهر ان ثلاثة ارباع الفرنسيين يريدون التخلي عن الطاقة النووية مقابل 22 % يساندون برنامج توسيعها وقد أعلن وزير الطاقة اريك بيسون في اذاعة اوروبا-1 أن التخلي التام عن انتاج الطاقة النووية هو من الخيارات المطروحة.

أما عندنا فالصورة مختلفة تماماً ففي محاضرة له في منتدى شومان الثقافي 4 /7 /2011 ظهر وزير الطاقة د. خالد طوقان متحمساً لمشروع انشاء مفاعل نووي في الاردن رغم كل التوجه العالمي المعاكس ورغم معارضة العديد من الكتاب والخبراء الاردنيين ورغم مظاهرات الاحتجاج التي نظمها ناشطو البيئة ورغم رفض سكان محافظة المفرق لبنائه في اراضيهم، وفي تعقيب قصير عليه قلت ان مقابل كل المعلومات والآراء التي ذكرها المحاضر الكريم هناك معلومات وآراء تخالفها وتدحضها تماماً لكن ضيق الوقت لا يسمح بشرحها وقلت إن اللافت للنظر أنه أغفل مشكلة التخلص من النفايات النووية باخطارها الجمه كما تعمد الاستخفاف بالطاقة الشمسية البديلة وهي النظيفة الرخيصه. ومن جهة أخرى عُقدت في 5 /7 /2011 بجامعة البلقاء التطبيقية في السلط ((ندوة صناعة الطاقة النووية في الاردن)) بدعوة من رئيسها الدكتور اخليف الطراونة وقد أدارها بمهنية عالية الدكتور عبدالله الزعبي نائب الرئيس لشؤون المراكز العلمية حيث قدّم اوراق البحث وشارك في النقاش نفرٌ من أهل العلم والاختصاص وبعض المهتمين هم: الدكتور كمال الأعرج رئيس هيئة الطاقة الذرية بالوكالة والدكتور نضال الزعبي مفوض دورة الوقود النووي في هيئة الطاقة الذرية والدكتور جمال شرف رئيس هيئة تنظيم العمل الإشعاعي والنووي والدكتور سائد دبابنة نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة والنائب المهندس جمال قموه رئيس لجنة الطاقة في مجلس النواب والدكتور فخر الدين الداغستاني مدير الشركة الأردنية لمصادر الطاقة والدكتور كمال خضير مدير التخطيط ومواقع المفاعلات النووية سابقاً في هيئة الطاقة الذرية والسيد بهجت العدوان نقيب الجيولوجيين والمهندس رؤوف الدباس مستشار معالي وزير البيئة والصيدلي باسل برقان الناشط البيئي والدكتور صلاح الدين الملكاوي من جامعة العلوم والتكنولوجيا والدكتور ياسين الحسبان من جامعة الحسين والمهندس مصطفى الواكد والدكتور عبد الحفيظ الهروط والسيد مشهور أبو عبيد وكاتب هذه السطور. وبعد حوار موضوعي استغرق اربع ساعات واتسم باحترام الرأي والرأي الآخر ((أوصى المشاركون في الختام بضرورة التوقف عن السير ببناء المفاعلات النووية لحين اجراء مراجعة شاملة للبرنامج النووي الاردني بدءاً باستكشاف اليورانيوم واختيار الموقع واختيار التكنولوجيا والجدوى الاقتصادية للمشروع بالكامل وعدم التسرع في اتخاذ القرارات أٌحادية النظرة)).

وبعد.. أعرفتم الآن لماذا العنوان: ليتكم كنتم معنا.. في السلط !
ما زال السؤال.. من يملك الصحيفة؟

«في جلسة نادرة كأنها ندوة فكرية طال التحضير لها، دار النقاش الهادئ حول الصحافة في بلدنا، دورها ووظيفتها، علاقتها بالوطن والحكومة والشعب، حدودها وحقوقها وواجباتها.. وكان هناك هجوم وكان هناك دفاع، كانت هناك مفاهيم مثالية عن حرية الصحافة وكان هناك توضيح واقعي للحدود التي على الصحافة الا تتعداها.. كان هناك كلام كثير عن الصحافة الرسمية»المقولبة» والصحافة الشعبية المتحررة من كل القيود، كان هناك نقاش حول الاخطاء التي تقع فيها الصحيفة والعقوبات التي تصدر بحقها، من المسؤول عن الاخطاء ومن المسؤول عن حجم العقوبة؟ من الذي يحاسب ومن الذي يعاقب؟ من يحمي الصحيفة من حكم جائر ومن يحمي أمن الوطن من صحيفة تزعزع ثقة المواطن؟ وتشعّب الحديث حتى كاد ان يتوه في التفاصيل الصغيرة التي لا معنى لها ولا جدوى وراءها، وعادت الامور الى نصابها حينما طُرح السؤال الكبير: من يُصدر الصحيفة؟ من يملكها ويدير فعلا تحريرها؟ وبالاجابة على هذا السؤال يمكن تفسير الحرية الصحفية في مختلف البلدان وتطبيقه على مختلف الصحف في العالم..

هناك ثلاثة انواع من الصحف في العالم:

صحف تصدرها حكومات باسم الحزب الواحد كما في الدول الاشتراكية وبعض الدول العربية.

صحف تصدرها الاحزاب السياسية في البلاد المتعددة الاحزاب كما في ايطاليا وفرنسا وبريطانيا.

صحف تصدرها مؤسسات صحفية كبيرة»وهي في الاصل شركات تجارية مالية ضخمة» كما في امريكا وغيرها..

وانطلاقا من هذا التصنيف يمكن تطبيق معادلة الحرية الصحفية وتفسيرها بطريقة عملية مادية لا ظل فيها للمثاليات والشعارات. ففي النوع الاول ليست هناك حرية صحافة بالمعنى الليبرالي المجرد، وانما الصحف خادمة لكل اهداف ومبادئ الحزب أو الحكومة التي يفترض فيها انها تخدم مصالح الشعب. وفي النوع الثاني يكون التزام الصحيفة بمبادئ الحزب الذي تمثله وتعبر عن اهدافه هو ما يحكم سياستها ونوع مقالاتها وتعليقاتها، ويكون الحزب هو المسؤول عن اخطائها ومعاقبة المخطئين فيها، وحتى في هذا النوع من الصحافة ليست هناك حرية مطلقة تجاه الوطن وأمن الدولة، بل هناك قيود غير مرئية تخضع لها جميع الصحف مهما تعددت ألوانها وتنوعت مبادئ احزابها.. أما في النوع الثالث حيث الصحف تصدرها المؤسسات الصحفية المالية الكبرى فالتزام الصحيفة أمر تلقائي نحو المؤسسة التي تصدرها كما أنها مرتبطة بمؤسسات مالية اخرى ذات نفوذ كبير كشركات الدعاية والاعلان.. وتحرير هذه الصحف يتحرك حركة واسعة في خدمة الطبقة التي تملكها، والحرية فيها تبعا لذلك فضفاضة حتى لتكاد تطمس كل الحريات الحقيقية للفئات والطبقات الاخرى، وهذه المؤسسات الصحفية فوق ذلك تنتمي في جوهرها للنظام الحاكم.. اذن فهي وبرغم كل مظاهر الحرية تبقى»مقيدة» بمبادئ الطبقة الحاكمة في مجتمعها.

وبعد.. فهل هذه كل انواع الصحف في العالم؟ الواقع ان هناك انواعا صغيرة اخرى كثيرة لا تدخل في هذه الابواب التي عددتها، ولا يهمنا هنا منها الا نوعان نعرفهما وينبغي لنا ان نحللهما:

النوع الاول.. صحافة لبنان التي كانت تصدر في جو غير طبيعي من الحريات ربما كان سببه الحقيقي»غيبة الدولة»، وكان وراء معظم تلك الصحف سفارات او جهات أجنبية أو احزاب سياسية ليست بلا ارتباطات خارجية.

والنوع الثاني.. في الاردن، صحف قليلة معروفة يملكها ويصدرها شخص أو بضعة اشخاص ( الى ان صدرت»الشعب».. التي تملكها شركة يساهم فيها اكثر من الف مواطن.. ) هذه الصحف في بلدنا تمثل من ياترى؟ ما الذي يحكم سياستها ومن الذي يرسم لها الطريق؟ هل تتحكم فيها عوامل الربح والخسارة.. أم تندفع فقط وبطريقة مثالية في خدمة الاهداف الوطنية الكبرى والمبادئ الانسانية السامية؟ هل يلتزم محرروها بسياسة الحكومة ام بمطالب الناس ام باجتهاداتهم الشخصية؟ هل ترتبط كل صحيفة بسياسة معينة تخدمها ولا تحيد عنها أم انها تميل مع الريح وتتجاوب مع الظروف؟!

ان الجريدة التي يملكها شخص او بضعة اشخاص، كل محرريها مجندون للكتابة فيما يرضي هذا المالك، وقد يكون صاحب فكر سياسي معين لا يتفق مع افكارهم ومبادئهم، اذن فالحرية الصحفية هنا تحدها رقابة المالك قبل ان تصل حدود الرقابة الحكومية!

والمالك يهمه بالدرجة الاولى الا تتوقف جريدته عن الصدور، لذلك يجد نفسه في كثير من الحالات يحابي الجانب الرسمي-ربما دون اقتناع-حتى لا يتعرض للخسارة المالية، ومن جهة اخرى سيجد نفسه مضطراً في كثير من الاحيان لمسايرة افكار سياسية حتى لو كان في قرارة نفسه يمقتها جريا وراء مزيد من التوزيع ومزيد من الربح وطلبا للتفوق في المنافسة مع باقي الصحف، ومع ذلك فان اقلاما شجاعة تُفلت بين الحين والاخر من بين كل القيود لتسجل صفحات ناصعة في تاريخ الصحافة ويتحمل اصحابها في سبيل ذلك المنع والقمع..».

وبعد.. فهذا مقال كتبتُه في جريدة»الشعب» قبل خمس وثلاثين سنة (10 آب 1976) عن حديث دار على عشاء اقامه صديق وشارك فيه زيد الرفاعي ( بعد استقالته من رئاسة الحكومة ) وسليمان عرار ومحمد البشير ( وزيرا الداخلية والصحة في الحكومة الجديدة التي شكلها مضر بدران ) وكاتب هذه السطور، ولقد خطر لي استعادته بعد أن سمعت مؤخراً عن احتمال بيع إحدى صحفنا اليومية والخوف من تخلي ((المشتري)) عن مبدأ «الفصل بين ادارة تحرير الجريدة وصاحب رأس المال»! فهل سلّطتُ بذلك بعض ضوءٍ «قديم» على.. مشكلة»جديدة»!؟.