13/2 /2010
عن العالمة هيباتيا للمرة الثالثة
د. زيد حمزه
كتبت عنها اول مرة في تسعينات القرن الماضي حين سألتني ابنتي من أقاصي الدنيا (بنما) : من هي هيباتيا هذه التي ماتت قبل خمسة عشر قرناً بوخز سمكة شوكية سامه في مياه الشاطئ الاسكندري ؟ ولكي اجيبها بدقه عدت للموسوعة البريطانية فذهلت مما قرأت : لقد كانت عالمة في الرياضيات والفلك والفلسفه في جامعة الاسكندرية ولم تكن تدين بالمسيحية بل كانت من الوثنيين، ولم تمت بوخز سمكة شوكية سامة بل سُحلت وقُتلت بأصداف البحر بطريقة بشعة على يد مسيحيين متعصبين سنة 415 ميلادية . ومن الجدير بالتذكير أن تلك الجامعة العظيمة قد درّس فيها في فترات مختلفه علماء عظام كاقليدس ونيكوماخوس (الجرشي أي من جرش الاردنية) وأرخميدس (من صقليه) وبايوس وأبو قراط .
ثم كتبت عن هيباتيا مرة أخرى في العام الماضي (30 /5 /2009 ) ما يلي: مضت سنوات والقصة الحزينة الدامية تنزوي في ركن من مخيلتي ولا تلبث أن تطفو على سطحها بين فينة وأخرى حتى قرأتها من جديد في رواية عزازيل ليوسف زيدان بتفاصيل اكثر ترويعا وأشد ايلاماً على لسان راهب مصري ((... ساعة الفجر فتحتُ عيني منتبهاً أنه يوم الاحد، يعني يوم المحاضرة... سوف ارى هيباتيا... دخلتْ الصالة الفسيحة فوقف لها الجميع بمن فيهم الرجال !.. لما حيتهم وجلسوا رأيتها ترتقي الدرجتين الى المنصة وتقف كالحلم أمام الجمهور ... هيباتيا أمرأة وقورة جميلة بل هي جميلة جداً أو لعلها أجمل أمرأة في الكون ولما تكلمت زاد بهاؤها ألقاً ... ظننت أولا أنني سأسمع محاضرة وثنية جداً ثم عرفت أن الرياضيات لا شأن لها بالوثنية ولا بالايمان ... غير أنني تأكدت من همهمات الخدم الذين يترددون بين المدينة والكنيسه أن كراهية البابا لهيباتيا كانت قد بلغت المدى حتى كان يوم الاحد المشؤوم ففي صبيحة ذاك اليوم خرج البابا كيرولس الى مقصورته ليلقي على الجموع عظته الاسبوعية ، كان بطرس القارئ أول من تحرك نحو الباب ثم تحرك من خلفه الناس جماعات وهم يرددون عباراته الجديده : بعون السماء سوف نطهرّ ارض الرب، انتبهتُ الى ذلك الرجل النحيل طويل الرأس الذي جاء من أقصى الشارع يجري وهو يصيح لبطرس والذين معه : الكافرة ركبتْ عربتها ولا حراس معها، بطرس القارئ انطلق ببدنه الضخم ليلحق بالعربة وهو يصرخ ويصرخ وراءه اتباعه بالفاظ غير مفهومه، قبل أن يصل اليها بامتار وقف فجأة وتلفت فاندفع الى ناحيته احدهم وهو يصيح صيحة هائلة ويخرج من تحت ردائه الكنسي سكيناً طويلا صدئاً، لما التقط بطرس السكين زعق فيها: جئناك يا عاهرة يا عدوة الرب، سحبها من شعرها الى وسط الشارع ومضى يجر ذبيحته ، صارت هيباتيا عارية تماماً ومتكومة حول عريها تماما ثم راحوا يجرونها، وهكذا سحلوا هيباتيا على الارض حتى تسحّج جلدها وتقرّح لحمها، كانت هناك كومة من اصداف البحر، قشّروا بالاصداف جلدها عن لحمها وجروا هيباتيا بعد ما صارت قطعة بل قطعاً من اللحم الاحمر المهترئ . عند بوابة المعبد المهجور بطرف الحي الملكي القوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب بعدما صارت جثة هامدة ، ثم اشعلوا النار )).
في نفس شهر أيار من العام الماضي جاء في الانباء أن المخرج الاسباني اليخاندرو أمينابار قدم في مهرجان كان السينمائي فيلماً باسم (( أغورا )) ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول عبثاً مشاهدته ولو على قرص مدمج حتى حانت الفرصة الحقيقية بعرضه منذ أيام في دار للسينما في عمان حيث عشت مرة أخرى مع مأساة هذه العالمة الفذه التي ظلت حتى أخر يوم في حياتها متشبثة بمواصلة أبحاثها ومن بينها رأيها القائل بكروية الارض رغم اعتراض المتدينين بأنها مسطحة ! أما نهايتها المرعبة ( الثابته تاريخياً ) فقد شاء المخرج أن يحجبها عن عيون المشاهدين نظراً لبشاعتها أو مراعاة لمشاعر بعض المؤمنين واستعاض عنها إيماءاً بأن جعل عاشقها الشاب المسيحي الذي لم يستطع أن يحميها من همجية المسعورين المتربصين بها إلا بأن يضمها ويخنقها كي تموت فلا تحس بآلام الطعن والسحل والتقطيع ..
ولعل من أهم ما جاء في الفيلم إضافةً لهذه الجريمة جريمة أخرى تمثلت في حرق مكتبة الاسكندرية أكبر واشهر مكتبة في العالم القديم بناها الملك بطليموس الثالث وكيف حاولت هيباتيا وجماعتها من الوثنيين أن ينقذوا ما أمكن أنقاذه من محتوياتها من اللفائف والكتب والمخطوطات. وللعلم فأن الذين حرقوا المكتبة العظيمة عام 391م هم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة قتل هيباتيا عام 415م ..
وبعد .. ما زالت أمثال هذه الجرائم متواصلة بأشكال مختلفة وبفظاعة أشد وانكى ، يرتكبها المتعصبون من كل الاديان والمعتقدات والايديولوجيات .. ضد الآخرين !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق